فصل: تفسير الآيات (38- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (38- 48):

قوله تعالى: {كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ (38) إِلّا أصْحاب الْيمِينِ (39) فِي جنّاتٍ يتساءلون (40) عنِ الْمُجْرِمِين (41) ما سلككُمْ فِي سقر (42) قالوا لمْ نكُ مِن الْمُصلِّين (43) ولمْ نكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين (44) وكُنّا نخُوضُ مع الْخائِضِين (45) وكُنّا نُكذِّبُ بِيوْمِ الدِّينِ (46) حتّى أتانا الْيقِينُ (47) فما تنْفعُهُمْ شفاعةُ الشّافِعِين (48)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدم والتأخر بالأفعال، وكان أكثر أفعال الإنسان الشر لما جبل عليه من النقصان، قال مبينا لما يقدم وما يؤخر {كل نفس} أي ذكر أو أنثى على العموم {بما كسبت} أي خاصة لا بما كسب غيرها {رهينة} أي مرتهنة بالفعل، اسم بمعنى.
الرهن كما في قول الحماسي:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ** رهينة رمس ذي تراب وجندل

لا تأنيث {رهين} الذي هو وصف، لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي مذكره ومؤنثه، ولو كانت الفواصل التي يعبرون بها عن السجع تأدبا تراعى في القرآن بوجه لقيل: رهين- لأجل يمين، ولكن لا نظر فيه لغير المعنى، ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة بمعنى موثقة إيثاقا بليغا محبوسة حبسا عظيما فهي في النار، فجعل الأصل في الكسب الموثق.
ولما كان الرهن تارة يفك وتارة يغلق، وكان أكثر الخلق هالكا، جعل رهينة بمعنى هالكة، ثم استثنى الممدوح فقال: {إلا أصحاب اليمين} أي الذين تقدم وصفهم وهم الذين تحيزوا إلى الله فائتمروا بأوامره وانتهوا بنواهيه، فإنهم لا يرتهنون بأعمالهم، بل يرحمهم الله فيقبل حسناتهم ويتجأوز عن سيئاتهم.
ولما أخرجهم عن حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه، استأنف بيان حالهم فقال: {في جنات} أي بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا، فالآية من الاحتباك: أثبت أولا الارتهان دليلا على حذف ضده ثانيا، وأثبت ثانيا الجنة دليلا على حذف ضدها أولا.
ولما كان السؤال عن حال الغير دالا دلالة واضحة على الراحة والفراغ عن كل ما يهم النفس، عبر عن راحتهم في أجل وعظ وألطف تحذير بقوله: {يتساءلون} أي فيما بينهم يسأل بعضهم بعضا {عن المجرمين} أي أحوال العريقين في قطع ما أمر الله به أن يوصل.
ولما كان يوم القيامة في غاية الصعوبة وكان أحد مشغولا بنفسه، فكان لا علم له بتفاصيل ما يتفق لغيره، وكان أولياء الله إذا دخلوا دار كرامته أرادوا العلم بما فعل بأعدائهم فيه سبحانه، فتساءلوا عن حالهم فقال بعضهم لبعض: لا علم لنا، فكشف الله- لهم عنهم حتى رأوهم في النار وهي تسعر بهم ليقر الله أعينهم بعذابهم، زيادة في نعيمهم وثوابهم، كما تقدم في الصافات عند قوله: {قال قائل منهم إني كان لي قرين} [الصافات: 51] وكان بساط- الكلام دالا على هذا كله، أشار لنا سبحانه إليه بقوله حكاية عما يقول لهم أولياؤهم توبيخا وتعنيفا وشماتة وتقريعا تصديقا لقوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} [المطففين: 34] الآية، ولتكون حكاية ذلك موعظة للسامعين وذكرى للذاكرين: {ما} هي محتملة للتوبيخ والتعجيب {سلككم} أي أدخلكم أيها المجرمون إدخالا هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب {في سقر} فكان هذا الخطاب مفهما لأنهم لما تساءلوا نفوا العلم عن أنفسهم، وكان من المعلوم أن نفي العلم لأنهم شغلوا عن ذلك بأنفسهم وأنهم ما شغلوا- مع كونهم من أهل السعادة- إلا لأن ذلك اليوم عظيم الشواغل، وكان من المعلوم أنه إذا تعذر عليهم علم أحوالهم من أهل الجنة وهم غير مريدين الشفاعة فيهم فلم يبق لهم طريق إلى علم ذلك لا يظن به التعريض للشفاعة إلا السؤال منهم عن أنفسهم في أنهم يخاطبونهم بذلك فيعلمون علمهم ليزدادوا بذلك غبطة وسرورا بما نجاهم الله من مثل حالهم ويكثروا من الثناء على الله تعالى بما وفقهم له وليكون ذلك عظة لنا بسماعنا إياه فحكى الله أنهم لما سألوهم {قالوا} ذاكرين علة دخولهم النار بإفساد قوتهم العملية في التعظيم لأمر الله فذلكة لجميع ما تقدم من مهمات السورة بما حاصله أنهم لم يتحلوا بفضيلتين ولم يتخلوا عن رذيلتن تعريفا بأنهم كانوا مخاطبين بفروع الشريعة، وفي البداءة بالعمل تنبيه على أنه يجب على العاقل المبادرة إلى ما يأمره به الصادق لأنه المصدق لحسن الاعتقاد، والمبادرة إلى التلبس بالعمل أسهل من المبادرة إلى التلبس بالعلم، لأن العمل له صورة وحقيقة، ومطلق التصوير أسهل من التحقيق، ومن صور شيئا كان أقرب إلى تحقيقه ممن لم يصوره، فكان أجدر بتحقيقه ممن لم يباشر تصويره، ففيه حث على المسابقة إلى الأعمال الصالحة وإن لم تكن النية خالصة، وإيذان بأن من أدمن ترك الأعمال قاده إلى الانسلاخ من حسن الاعتقاد، وورطه في الضلال، {لم نك} حذفوا النون دلالة على ما هم فيه من الضيق عن النطق حتى بحرف يمكن الاغتناء عنه، ودلالة على أنه لم يكن لهم نوع طبع جيد يحثهم على الكون في عداد الصالحين، وكان ذلك مشيرا إلى عظيم ما هم فيه من الدواهي الشاغلة بضد ما فيه أهل الجنة من الفراغ الحامل لهم على السؤال عن أحوال غيرهم، وكان ذلك منبها على فضيلة العلم: {من المصلين} أي صلاة يعتد بها، فكان هذا تنبيها على أن رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم، وعلى أنهم يعاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصح منهم، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتد بها، وعلى أن الصلاة أعظم الأعمال، وأن الحساب بها يقدم على غيرها.
ولما نفوا الوصلة بالخالق، أتبعوه إفساد القوة العملية بعدم وصلة الخلائق بترك الشفقة على خلق الله فقالوا: {ولم نك} بحذف النون أيضا لما هم فيه من النكد ونفيا لأدنى شيء من الطبع الجيد {نطعم المسكين} أي لأجل مسكنته، نفوا هنا وجود إطعامه لأنهم إن اتفق إطعامهم له فلعلة أخرى غير المسكنة، وأما الصلاة فهم يوجدونها لله بزعمهم، لكن لما كانت على غير ما أمروا به لم تكن مقبولة فلم يكونوا من الراسخين في وصفها.
ولما سلبهم التحلي بلباس الأولياء أثبت لهم التحلي بلباس الأشقياء بإفساد القوة النطقية جامعا القول إلى الفعل فقالوا: {وكنا} أي بما جبلنا عليه من الشر {نخوض} أي نوجد الكلام الذي هو في غير مواقعه ولا علم لنا به إيجاد المشي من الخائض في ماء غمر {مع الخائضين} بحيث صار لنا هذا وصفا راسخا فنقول في القرآن: إنه سحر، وإنه شعر، وإنه كهانة وغير هذا من الأباطيل، لا نتورع عن شيء من ذلك، ولا نقف مع عقل، ولا نرجع إلى صحيح نقل، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا.
ولما كان الإدمان على الباطل يجر إلى غلبة الهزء والسخرية، وغلبه ذلك ولابد توجب إفساد القوة العلمية بتصديق الكذب وتكذيب الصدق، قالوا بيانا لاستحبابهم الخلود: {وكنا نكذب} أي بحيث صار لنا ذلك وصفا ثابتا {بيوم الدين} ولما كان التقدير: واستمر تكذيبنا لصيرورته لنا أوصافا ثابتة.
بنوا عليه قولهم: {حتى أتانا} أي قطعا {اليقين} أي بالموت أو مقدماته التي قطعتنا عن دار العمل فطاح الإيمان بالغيب.
ولما أقروا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم، فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه، سبب عنه قوله: {فما تنفعهم} أي في حال اتصافهم بهذه الصفات وهي حالة لازمة لهم دائما {شفاعة الشافعين} أي لو شفعوا فيهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ (38) إِلّا أصْحاب الْيمِينِ (39)}
قال صاحب (الكشاف): رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله: {كُلُّ امرئ بِما كسب رهينٌ} [الطور: 21] لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصيغة لقيل: رهين، لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنعف نعف كواكب ** رهينة رمس ذي تراب وجندل

كأنه قال: رهن رمس، والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك إلا أصحاب اليمين، فإنهم فكوا عن رقاب أنفسهم بسبب أعمالهم الحسنة، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق، ثم ذكروا وجوها في أن أصحاب اليمين من هم؟
أحدها: قال ابن عباس: هم المؤمنون.
وثانيها: قال الكلبي: هم الذين قال (فيهم) الله تعالى: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي» وهم الذين كانوا على يمين آدم.
وثالثها: قال مقاتل: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار. ورابعها: قال علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عمر: هم أطفال المسلمين.
قال الفراء: وهو أشبه بالصواب لوجهين:
الأول: لأن الولدان لم يكتسبوا إثما يرتهنون به.
والثاني: أنه تعالى ذكر في وصفهم، فقال: {فِى جنات يتساءلون عنِ المجرمين ما سلككُمْ في سقر} [المدثر: 40 42] وهذا إنما يليق بالولدان، لأنهم لم يعرفوا الذنوب، فسألوا {ما سلككُمْ في سقر}.
وخامسها: عن ابن عباس: هم الملائكة.
{فِي جنّاتٍ يتساءلون (40) عنِ الْمُجْرِمِين (41)}
قوله تعالى: {فِي جنات} أي هم في جنات لا يكتنه وصفها.
ثم قال تعالى: {يتساءلون عنِ المجرمين} وفيه وجهان:
الأول: أن تكون كلمة عن صلة زائدة، والتقدير: يتساءلون المجرمين فيقولون لهم: {ما سلككم في سقر}؟ فإنه يقال سألته كذا، ويقال: سألته عن كذا.
الثاني: أن يكون المعنى أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقولوا: ما سلكهم في سقر؟.
قلنا: أجاب صاحب (الكشاف) عنه فقال: المراد من هذا أن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون قلنا لهم: {ما سلككم في سقر}.
وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم قالوا لهم: {ما سلككم في سقر} والإضمارات كثيرة في القرآن.
{ما سلككُمْ فِي سقر (42)}
المقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل، والمعنى ما حبسكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة:
أولها: {قالواْ لمْ نكُ مِن المصلين}.
وثانيها: لم نك نطعم المسكين، وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة، والزكاة الواجبة لأن ما ليس بواجب، لا يجوز أن يعذبوا على تركه.
وثالثها: {وكُنّا نخُوضُ مع الخائضين} والمراد منه الأباطيل.
ورابعها: {وكُنّا نُكذّبُ بِيوْمِ الدين} أي بيوم القيامة حتى أتانا اليقين، أي الموت قال تعالى: {حتى يأْتِيك اليقين} [الحجر: 99] والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفا بهذه الخصال الأربعة، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشرائع، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في (المحصول من أصول الفقه).
فإن قيل: لم أخر التكذيب، وهو أفحش تلك الخصال الأربعة؟
قلنا أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين، والغرض تعظيم هذا الذنب، كقوله: {ثُمّ كان مِن الذين ءامنُواْ} [البلد: 17].
{فما تنْفعُهُمْ شفاعةُ الشّافِعِين (48)}
واحتج أصحابنا على ثبوت الشفاعة للفساق بمفهوم هذه الآية، وقالوا: إن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين. اهـ.